نبذة تاريخية

بداية عصر الكهرباء



مقدمة
لايمكن أن نتحدث عن دخول الكهرباء في مدينة كبري دون التعرض للغاز , والرابطة التي تجمع بين هذين المصدرين للطاقة أنهما يستخدمان في الاضاءة كما أن الفحم كان يمثل المادة الأولية للحصول علي أي منهما .

وقد سبق استخدام الغاز استخدام الكهرباء بحوالي نصف قرن وغالباً من كان وراء تطبيق استخدامات الغاز هم الذين اهتموا بتطوير استخدام الكهرباء والتي كانت منافساً للغاز في استخداماته آنذاك وقد أصبح استخدام الغاز في الانارة وبعض المجالات الأخري واقعاً في منتصف القرن التاسع عشر بينما فرض استخدام الكهرباء في الانارة نفسه بعد ذلك لما لها من مزايا متعددة حيث بدأ تطور استخدامها في فرنسا منذ عام 1890 بعد اختراع أديسون للمصباح الكهربائي ومع ذلك ظل هذان المصدران يستخدمان في الاضاءة حتي أوائل القرن العشرين .

انتقلت مصر خلال ثمانين عاماً منذ بدء حكم محمد علي ثم خلفائه من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الي دولة تصطف مع أكبر الدول بالمنطقة وفي إزدهار فني واجتماعي وفكري. ويرجع الفضل اليهم في أن مصر كانت تحيا عصرها الذهبي حتي بداية الحرب العالمية الأولي ثم دخول الكهرباء وقد شجعت هذه العناصر مكتملة رجل الأعمال الفرنسي شارل ليبون علي السفر الي مصر .
شارل ليبون
تطلع رجل الأعمال الفرنسي " شارل ليبون " الي فتح مراكز تجارية في بعض المواني وإنشاء مصانع غاز بها وكان قد أنشأ مصنعاً للغاز في مدينة دييب الفرنسية مسقط رأسه ثم تلا ذلك وفي عام 1838 إنشاء مصنع مماثلة في بعض المدن الأسبانية " مدريد ـ برشلونة ـ فالنسيا " وفي عام 1841 حصل علي امتياز الانارة العامة في مدينة الجزائر العاصمة .

وفي عام 1864 الذي تولي فيه اسماعيل باشا الحكم خلفاً لسعيد توجه الي مصر شارل ليبون لطلب حق استغلال اضاءة مدينتي القاهرة والاسكندرية باستخدام الغاز
وفي 15 فبراير 1865 تم توقيع العقد الأول لتوزيع الغاز في القاهرة وبمقتضاه منحت السلطات المصرية لشركة ليبون حق الامتياز وفي عام 1873 عدل هذا العقد بحيث يمتد حق الامتياز لمدة 75 عاماً تنتهي في سنة 1948 حيث شمل نطاق التوزيع أحياء بولاق ومصر القديمة .

وفي نفس العام استطاع شارل ليبون الحصول علي أول عقد يعطيه امتياز استغلال الغاز في إضاءة مدينة الاسكندرية ولمدة 30 عاماً والتزام آنذاك بتركيب 267 مصباحاً للإنارة العامة بناء علي توجيهات الخديوي في ذلك الوقت. وفي عام 1893 تم مد امتياز الاستغلال لمدة 99 عاماً تنتهي في 1992 .

ولكن أين الكهرباء من كل ذلك ؟ في الواقع فإن الكهرباء دخلت عقب دخول الغاز وبواسطة نفس الأشخاص الذي تولوا إدخال الغاز , والواقع أن الادارة العامة لشركة ليبون أعلنت سنة 1892 بأن استخدام الكهرباء في الانارة أصبح عمليا بالرغم من كونه غير اقتصادي ولكن بالنسبة لشركة لها تطلعات كشركة ليبون فلم يكن ممكناً إنكار أن هذه التقنية الحديثة والتي يمكن أن تصبح منافساً للإضاءة بالغاز ومن ثم كان من الأفضل أقتحام هذا المجال خوفاً من أن يؤدي التهيب من الاستفادة من هذه التقنية الي ظهور شركات جديدة منافسة تستغل هذا الموقف .

وبناءً علي ذلك أعلنت شركة ليبون عام 1893 عن عزمها علي خوض التجربة في القاهرة لمدة خمس سنوات وقررت بناء مصنع لإنتاج المهمات المطلوبة كما قررت بناء مصنع آخر في الاسكندرية عام 1894 ومنذ عام 1895 أثبتت تجربة القاهرة فاعليتها وجدواها وفي عام 1898 حقق المشروع في المدينتين نتائج باهرة .

ويجدر الاشارة أن التطبيقات الأولي للكهرباء واستخدامها في فرنسا لأغراض الانارة العامة تعود الي عام 1880 مما يجعلنا نضع مصر في مصاف الدول الرائدة في هذا المجال .

وكانت القاهرة والاسكندرية أول مدينتين شهدتا استخدام الكهرباء في أغراض الانارة في نهاية القرن التاسع عشر, تلتهما كل من بورسعيد وطنطا في عام 1902 أما خارج نطاق الدلتا فقد استمر استخدام الوسائل التقليدية في الانارة .

وهنا برز سؤال عن قيمة التردد الذي سيستخدم ونظراً لعدم وجود مواصفات قياسية فقد أختير تردد 40 هرتز لباكورة الماكينات المستخدمة ورأت الشركة استبقاء هذا التردد مستندة الي قصر مدة الاستخدام في عدم جدوي التغيير إلا أن الموقف بالنسبة لمدينة الاسكندرية كان مختلفاً حيث امتد حق الامتياز 99 سنة وتم تغيير الذبذبة من 40 الي 50 هرتز سنة 1930ـ 1931 .

وكانت أهم الاستخدامات في ذلك الوقت الانارة العامة والخاصة وتسيير الترام, في البداية اقتصر استخدام الكهرباء علي الطبقات الموسرة والجاليات الغربية ولم يبدأ التطور الحقيقي إلا منذ عام 1920 وبمعدل عال ومستمر, وكانت المساجد أول عملاء استخدام الكهرباء في الانارة بقصد خفض تكاليف الانارة والتي كانت تعتمد علي الزيت من قبل, وقد كثرت الأقاويل بأن الزيت المخصص لإنارة المصابيح والثريات كان يستخدم في مطابخ الحراس, وحتي السنوات السابقة للحرب العالمية الثانية كان استهلاك الكهرباء في القوي المحركة أقل منه في الانارة نسبياً إلا أن الاحتياجات التي فرضتها الحرب مع وجود قوات الاحتلال الانجليزي في مصر وصعوبة استيراد المنتجات الصناعية , ساهمت في سرعة تطور الصناعة المحلية والتي كانت حتي ذلك الوقت بسيطة وقد أدي هذا النمط الاستهلاكي الي تغيير منحني الحمل اليومي فبعد أن كان ينخفضض صباحاً ويزيد اضطرارياً في المساء انتظم متوسط الاستهلاك .
الكهرباء في القاهرة
في عام 1892 تعاقدت الحكومة المصرية مع شركة ليبون لتجربة الاضاءة بالكهرباء في مدينة القاهرة ووقتها تم تحديد سعر بيع الكيلووات ساعة بمبلغ 1.5 فرنك فرنسي وكانت هذه القيمة تزيد عن مثيلتها في فرنسا بـ 50% وأصبح محتماً تخفيض هذه القيمة الي فرنك فرنسي واحد عام 1898 وهو تاريخ سريان العقد الجديد الذي تم توقيعه في عام 1897 , وكان العقد يتضمن بنداً ينص علي أن الشركة لن توفر التغذية الكهربائية خلال النهار مالم يصل الحمل الإجمالي للقوي المحركة الي 50 حصان ( 26.8 كيلووات ) لمدة ثماني ساعات يومياً, وسوف تتعهد الشركة بالإمداد بالكهرباء من قبل غروب الشمس بنصف ساعة الي بعد شروقها بنصف ساعة وتم تعديل هذا العقد مرتين إحداهما عام 1905 والأخري عام 1914 .

وقد ولدت الأحداث السياسية لعام 1901 فكرة تكوين شركة انجليزية تكون تحت إشراف شركة ليبون إلا أن هذه الفكرة نمت الي علم الحكومية الفرنسية التي بادرت بالاتصال بالجهات المعنية في مصر لكي تولي موضوع عدم تخفيض الاستثمارات الفرنسية في مصر كل اهتمامها وعليه فإن هذا المشروع لم يرى النور .

في عام 1870 وصل عدد مصابيح الاضاءة العامة بالقاهرة الي 1000 مصباح تعمل بالغاز كما وصل عدد المشتركين الي 100 مشترك وزاد العدد في الحرب العالمية الأولي الي 15000 مصباح و5300 مشترك .

في عام 1912 كان هناك 4800 مشترك يستهلكون 3 مليون كيلووات ساعة وفي نهاية 1946 أصبحوا 112000 مشترك يستهلكون 73 مليون كيلووات ساعة منها 33 مليون للقوي المحركة والاستخدامات المنزلية وزادت القوي المحركة من 38.1 كيلووات ساعة سنة 1897 الي 28000 كيلووات ساعة لخدمة 2600 مشترك .

في عام 1906 تم تجهيز أول محطة توليد بماكينات أفقية واضافة توربينات لافال , وفي عام 1947 أصبح بالمحطة 6 مولدات " اورليكون " وكانت الغلايات من بابكوك ـ ويلكوكس ـ بالاضافة الي مجموعتي ديزل .

تم إمداد المحطة بمياه التبريد اللازمة من ترعة المحمودية وأدت درجة الحرارة المحيطة وقلة المياه الي ضرورة اللجوء الي أبراج تبريد وبعد الحرب العالمية الأولي قامت الشركة بتجهيز محطاتها بغلايات تستخدم الفحم المطحون وهو الحل الأمثل في إقليم مناخ ساخن يبقي علي جفاف الوقود وكان ضغط الغلايات 15 بار والمجموعات الكهربائية 13 بار , وخلال الحرب العالمية الثانية أدت صعوبة الإمداد بالفحم الي استبداله بالمازوت ووصلت سعة الغلايات الي 50 طناً في الساعة وزاد ضغط توربينات المولدات من 36 الي 40 بار .
وقد تولي ادارة الشركة في القاهرة كل من:
  • م. بيجار قبل دخول الكهرباء
  • م.م. لويس بيتيل 1887- 1913
  • الوابيتيل 1913 - 1921
  • ديجارادان 1921 - 1947
ورد في عقد امتياز استغلال الغاز الموقع سنة 1893 بند خاص بتولي شركة ليبون توزيع الطاقة الكهربائية في مدينة الاسكندرية علي أمل تجميع عدد من المستهلكين يقومون باستخدام 600 مصباح علي الأقل ونظراً لأن عملية الانارة كانت في بدايتها فقد تم تحديد سعر الكيلووات ساعة في مدينة الاسكندرية بما يزيد عن مثيله في فرنسا بمقدار الثلث وقد تم تعديل هذا العقد المبدئي في عام 1940 بعقد جديد لمدة ثلاثين عاماً تنتهي في 1970 .

وفي البداية كان يجري توليد الكهرباء مساء وليلاً كما كان الحال في مدينة القاهرة ولكن في عام 1898 تم إمداد بعض أحياء وسط المدينة بالتيار الكهربائي لتشغيل مصاعد العمارات .

وفي هذه الفترة كانت محطة التوليد والتي كانت تسمي المحطة تشتمل علي 4 غلايات و4 مجموعات كهربية سولزير تولد الكهرباء علي جهد 2300 فولت ومنها الي محطات المحولات بالمدينة حيث تتم عملية التوزيع وكان جهد الشبكة في منطقة الرمل السكنية والشبيهة بمنطقة نوي بفرنسا 5000 فولت وذلك لبعد مراكز الأحمال عن المحطة وكبر حجم الطاقة المنقولة وكانت القدرة الإسمية للمحطة 400 كيلووات .

وفي سنة 1898 كان سعر الكيلووات ساعة 40 مليماً ( مايعادل فرنك ) وكان الإنتاج الشهري 15000 كيلووات ساعة مخصصة لـ 147 مشتركاً منهم 43 مشتركاً بمنطقة الرمل .

في عام 1947 وصل عدد المشتركين الي 66000 مشترك والاستهلاك الي 6500000 كيلووات ساعة شهرياً وبلغت القدرة الاسمية 30300 كيلووات وبينما كانت شبكات التوزيع لاتتعدي عدة كيلومترات في عام 1898 فقد بلغت 430 كم في عام 1947 .

ويمكن أن نلم بتطور الكهرباء في المدينة عندما نعلم أنها استهلكت أول مائة مليون كيلووات ساعة خلال 30 عاماً من 1897 حتي 1928 والمائة مليون التالية خلال ستة أعوام ثم مائة مليون أخري خلال أربع سنوات ونصف والمائة مليون الرابعة خلال سنتين وفي عام 1946 ارتفع الاستهلاك الي 62 مليون كيلووات ساعة وخلال الحرب العالمية الثانية أصيبت المحطة بثلاث قنابل وقتل ثلاثة ضباط .

المسئولون بشركة ليبون بالاسكندرية منذ عام 1865 :
  • م.م. مونوري
  • فيزينية
  • فروليك
  • بورجوا
  • دي سوريتي
  • أ. رامينجية سنة 1929 وكان له مساعد مصري د/ محمد الديب
الكهرباء في بورسعيد
بعد عمل دام عشر سنوات وأداء 25000 عامل علي مجموعات عمل لمدة ثلاثة أشهر لكل منهم تم افتتاح قناة السويس في 17 نوفمبر 1869 وكانت المدينة قد أنشئت في بداية العمل وسميت بإسم اسماعيل باشا, والذي ساعد فرديناند ديليسبس في تحقيق تطلعاته الطموحة بعد أن لاقي كثيراً من المشاكل في سبيلها وبعد افتتاح قناة السويس إزداد عدد السكان في المدينة .

وقد حصل السيد مونوري الذي كان ممثل الشركة في الاسكندرية منذ عام 1867 علي عقد امتياز لإنارة المدينة فبادر بإنشاء مصنع غاز ثم تنازل عنه عام 1898 الي شركة ليبون مفضلاً لها علي شركات انجليزية كثيرة وتم ضمه الي أعمال شركة ليبون سنة 1899 بالاضافة الي مصنع ثلج .

وفي سنة 1903 حصلت شركة ليبون علي موافقة بإنتاج وتوزيع الطاقة في المدينة وفي سنة 1914 تحولت هذه الموافقة الي امتياز , وطبقاً لبنود العقد الأخير آلت ملكية المنشآت الكهربائية والغازية الي الحكومة المصرية منذ أول يناير سنة 1938 وفي التاريخ كان بالمدينة 1000 مصباح كهربائي و900 مشترك في الغاز .

وعند إنتهاء التفويض سنة 1938 كان محطة الكهرباء مكونة من خمسة محركات ديزل بقدرة 2500 حصان ( 2000 كيلووات ) تنتج سنوياً 2500000 كيلووات ساعة لسبعة آلاف مشترك .
الكهرباء في طنطا
كانت مدينة طنطا الواقعة في دلتا النيل أكبر مدينة آهلة بالسكان في مصر بعد القاهرة والاسكندرية وبورسعيد وتقع في ملتقي الطرق بوسط الدلتا وقد بلغ عدد سكانها 54000 نسمة في عام 1947 .

في عام 1903 أنشأت مجموعة من المستثمرين المصريين والفرنسيين شركة كهرباء الوجه البحري والتي حصلت علي امتياز لمدة ثلاثين سنة للإنارة العامة والخاصة بالمدينة وعند نهاية المرحلة الأولي في 21 أغسطس 1934 كان شركة ليبون تمتلك غالبية الأسهم .

وعند نهاية الامتياز كانت المحطة في طنطا مكونه من ماكينتين (توسي) 540 و 240 حصان ( 400 و200 كيلووات ) وتوربين لافال 450 حصان (230 كيلووات ) وتوربين أورليكون وبلغت قيمة المبيعات السنوية حوالي 800000 كيلووات ساعة .
الخلاصـــــة

يمكن التأكيد بأن أكبر المدن المصرية تم كهربتها في بداية القرن العشرين وفي نفس توقيت كهربة المدن الأوروبية , وجدير بالذكر أن ذلك لم يكن ليتم بدون تحديث منطقة الدلتا بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر والذي أتاح لمصر الإنفتاح علي العالم الغربي الذي وفر بدوره الإمكانيات التمويلية اللازمة ويقف بنا هذا البحث عند نهاية الحرب العالمية الثانية ولازالت مصر منذ ذلك الوقت تواصل تطورها وتقدمها في مجال الكهرباء وهي الآن في مقدمة الدول الأفريقية في هذا المجال .